رواية المجنون الجزء 2
مركـز التكـوين المهنـي و التمهين المـــــراهنـــة :: أدب وشعــــر :: أدب و شعــــر :: الروايات و القصص القصيرة
صفحة 1 من اصل 1
رواية المجنون الجزء 2
توقف هنيهة يستجمع أنفاسه التي كان صدره يعلو وينزل بها متسارعة من شدة
الإجهاد...كان الجوع يمزق أمعاءه ويستشري في ركبتيه وهناً، أما البرد فَقَدْ فَقَدَ
الإحساس بهِ لبلوغه ذروة التجمد...وكان جرحُه ينزف، وبدا له أن طريق العودة سيطول،
وتمنى لو أنه أغمض عينيه ثم فتحهما ليجد نفسه أمام الكوخ...أو في حضن جدته، التي
ستسأله بلا أدنى شك عن بقعة الدم، في توتر وذهول، وحدّث نفسه وهو يتصوّر الموقف،
وكان حديثه ذاك مع نفسه مما هون عليه طول الطريق إلى القرية...مناديف الثلج لا تزال
تتساقط مترنّحة كسكّير، حتى إذا وصلت إلى مستقرها على الأرض ارتمت من التعب وذابت،
وكان يرى نفسه مثل هذه المناديف، أنهكه التعب...وسيصلُ الكوخ مترنحاً، وما إن يدخله
حتى يرتمي فيه ذائباً في لجّة نوم طويل طويل.
مضى يومان دون أن يصل...بل لقد وصل في ليلته الأولى لكنه آثر أن لا يدخل القرية قبل
أن يُعرج على المقبرة يزور قبر أمه وإخوته...هل يحي الأموات بقتل قاتليهم؟!!
أحس بالتشرد والضياع وهو يقف على قبور من أحب، هؤلاء الذين كانوا بالأمس معه، وحين
ذهبوا أخذوا معهم عقْله وخلفوا له الجنون...
لم يجد ما يقول، لذلك لزم الصمت...وقد أدرك أنه انتهى فعلاً، وأن موسم الأحزان سرمد
على قلبه...وقد كان يظن أن العمليتين ستعيدان له شيئاً مما ذهب منه...ورغم أنه كان
لا يستطيع تحديد ما الذي سيستعيده، إلا أنه كان يحس بشيء غامض كامن وراء تلة
الانتقام لدماء أمه وإخوته، وعذابات أبيه وجدته وأخته...
تراجع القهقرى دون أن يرفع بصره عن القبور الساكنة في ظلام أول الليل في هذه الليلة
الباردة...ومسح عن عينيه دمعتين...ثم استدار يجري نحو الخرابة يخبئ فيها أشياء
الحديد، قبل أن يرجع إلى الكوخ...وفوجئ بالشيخ (شوكور) منحشراً في الزاوية من شدة
البرد...
- عامر...؟!! أين أنت يابني؟!!
ولم يجبه الفتى...الذي رمى بسلاحه إلى الأرض وسارَ إلى الشيبة المعذّبة في الزاوية
يمطرها بالقبل...ويدس وجهه في صدرها...
كان في حاجة إلى دفء...روحه المرتجفة من ألم التشرد واعتصار الحزن في حاجة إلى دفء
صدر...جسده الذي مزّقه البرد في حاجة إلى دفء فراش، دفء ثوب، دفء شعلة نار...وبكى
العجوز وهو يمسح بيده على رأس الفتى، وفاجأه بقوله:
- ماذا فعلت يا بطل؟ ما الذي فعلته يا عامر؟!!
كان في طيات السؤال خبر مؤجل يجب على الفتى أن يعرفه، وأبعد وجهه عن العجوز ينظر
إليه متسائلاً في صمت...
- لقد جاؤوا يسألون عنك...
- قتلوا جدتي وأختي؟، قال الفتى مرتعباً...
- لا، اطمئن...سألوا عنك، وفتشوا الكوخ وما حوله ثم مضوا...
كانت أخبار المجنون قد سبقته إلى القرية...ونزلت على القلوب المجروحة بلسماً...
- والآن يا عم شوكور هل أستطيع أن أذهب إلى البيت؟!!
الأفضل يابني أن تتريث بعض الشيء...يوماً أو يومين...وبعدها
سنرى...
وكاد الفتى أنْ يسأل العجوز إنْ كاد يستطيع أنْ يذهب إلى القرية
ليتصيد له الأخبار، ويؤَمِّن دخوله لزيارة جدته وأخته...لكنه تذكر أنه مطلوب مثلما
صار هو مطلوباً... والضرير لا يقود ضريراً...لذلك أمسك عن ذلك، وكانت يد الشيخ تضغط
على ذراعي الفتى في اعتزاز...ولولا أنّ أصابع العجوز قد ضغطت على جرح الفتى، لما
دار بين الهاربين حديث حول الإصابة ... وتأوَّه المجنون، ليسأله صاحبُه:
- ما بك يا عامر؟!! ما الذي يؤلمك...؟!! وأشار المجنون إلى عضده...ناسياً أن الظلام
يجعل إشارته خرساء بلا معنى، إذ لم يكن من الممكن أن يراها العجوز الذي عاد إلى
السؤال في إلحاح:
- ما بك يا عامر؟
ودسّ يده في جيبه...أخرج علبة كبريت، خضّها يميناً وشمالاً فصدر منها صوت انتشى له
فؤاد الفتى الذي كانت قطرات الماء من ثيابه قد بللت الأرض من تحته...وانقدح
الشرر...وأعاد الشيخ الكَرَّة...وفي سكون الخرابة ووحشتها وبردها وُلدت شعلة صغيرة
متدرجة اللون من الزرقة في أسفلها إلى الحمرة الباهتة في أعلاها...وعلى النار كشف
الفتى ثوبه عن عضده...وأقبل عليه صاحبه يربطه بقطعة قماش مزقها مِنْ ردائه...وأحس
بالتفريط وهو لا يستطيع أن يقدم غير ذلك لهذا الفتى الطيب المجنون، الذي عرفه صبياً
يحضر مع أبيه وأخيه خالد صلاة الصبح في المسجد...
أحس الفتى بالارتخاء، رغم أن ثيابه لم تجف تماماً...وما هي إلا دقائق حتى كان يغط
في نوم عميق، غير أن أناته لم تتوقف...
وجلس الشيخ إلى جانبه يعالج النار لئلا تخمد فيحس المصاب بالبرد ويستفيق...كان بين
الحين والآخر يمد يده إلى كومة الحطب القريبة منه يستل منها أعواداً يطعمها لأفواه
اللهب المشرئبة أعناقه...وكان طوال ذلك يتأمل الوجه البريء الذي تمتزج فيه الوداعة
بالحزن ...ويقول لنفسه: أهذا هو المجنون الذي صارت القرية منذ يومين لا تنام ولا
تصحو إلا على أخباره؟
كان العجوز صامتاً...أما النار فكانت تثرثر بطقطقاتها، تقول أشياء وأشياء، دون أن
تقول شيئاً...
مضى يومان...استردّ فيهما المصاب بعض عافيته...كان العجوز يغمره بحنانه، ويتعهده
برعايته...وفي مساء هذا اليوم الثاني كان الإصرار على الرجوع إلى الكوخ قد بلغ عنده
الذروة...أصوات نباح الكلاب تنبعث قوية وضعيفة، بحسب قربها وبعدها، تملأ القرية
ضجة...وكان هو متسربلاًَ بالظلام تودعه عيون صديقه (شوكور) نحو القرية التي بدت
الأضواء الخافتة تطل من أكواخها من خلال النوافذ الصغيرة وشقوق الأبواب...وهي تتوسد
جبالها استعداداً للنوم...
أحس بقلبه يكاد يطير ليسبقه إلى الكوخ المتواضع حيث بقية عائلة هشمتها الأيام كجرة
فخار ولم يبق منها هنا في ذلك الكوخ الحبيب إلى قلبه سوى قطعتين مشروختين بالحزن،
وبوقع الفواجع المتتالية.
واقتربت خطاه...كان نباح الكلاب يملأ المكان ضجّة، وفكَّر في أن يُقبّلَ الجدران
التي تقبع بينها الآن قطعتا الفخار المتبقيتان مِنْ زمن سعيد مضى...وللمجانين من
مجنون(بني عامر) إلى مجنون(خاهزادشي) توافق أو تطابق...ومن ذلك قُبلاتهم التي
يزرعونها على الحجارة، لا حباً في الحجارة، بل في من يسكنُها، ومدّ يده نحو الباب
الذي لم يكن يظهر من خلال شقوقه نور في الداخل، فطرقه طرقات متواترة خفيفة. وخمن أن
جدته وأخته قد تُروّعان بذلك إذ تحسبانه غريباً، فهمس محاذراً:
- أنا عـ ـامـ ر...يا جدتي...أنا عامر يا عائشة.
وسمع أخته في الداخل تقول مبتهجة:
- إنه عامر يا جدتي.
وانفتح الباب دون أن يُشعَل المصباحُ الزّيتي.
- ادخل يا بني...ادخل يا حبيبي...ادخل...هل أنت بخير يا ابني...؟!!
قال عامر: لما لا تشعلين المصباح يا جدتي؟ أليس لكم زيت؟
- لا يا بني...لقد جاؤوا للبحث عنك وربما يكونون الآن متربصين في مكان ما يراقبون.
- إذن أشعلي النار يا عائشة، قال عامر.
- لكن يا بني.
- لا تخافي يا جدتي.
حينما انبعث ضوء النار في المكان، كانت الجدة تزرع وجه المجنون بالقبلات، وتغسل
وجهها هي بالدموع.
- ما الذي حدث يا عامر؟...قل لي...أنا جدتك.
كان الفتى صامتاً ينظر إليها وإلى أخته بعينين فيهما بريق عجيب، دون أن يقول شيئاً.
ولا حظت الجدة من بقعة الدم أن حفيدها مصاب، فصرخت كالملسوعة، ثمّ قامت باكية تحضر
بعض الزيت، تغليه على النار لتداويه به...فعسى ولعل...وحين يفقد المرء ما لا بد منه
يصبح استئناسه بما قد لا يكون له معنىً...لكنها الرحمة التي تسكن القلوب حتى مع ضعف
الأيدي عن تقديم شيء...وأدخلت البنت إصبعيها عبْر ثقب وسادة، تُخرج بعض الصوف
تتخذها جدتها لغسل الجرح بدل القطن.
انخلع الباب عن إطاره، وسقط على الأرض، ودخلت مع الغزاة نسمة باردة...كانوا يملؤون
الكوخ.
- إذن أنت عامر.
اختطفوه كعصفور صغير...تشبثت به جدته، أرادت أن تقول له ما كانت تريد أن تقول لإبيه
حين أخذوه :
اترك عنوانـك يا ولـدي. . . بدروب الظلمةِ في البلـد
فغـدا أشتاق وليس معـي. . . لليالي الوحدة مِنْ جَلَد
أما عائشة...فقد كان الشرخ في قلبها يستفحل، وهي تتشبث بالجدار في الزاوية، واقفة
مروعة كعصفورة داهمتها الصقور، تنظر إلى أخيها، وتهمس مرعوبة :
عامر...عامر...عامر.
وحين انطلقوا به في الظلام، مخلفين نباح الكلب ووجه الجدة المتيبّس الذي تحملق
عيناه في الظلام، في أثر فتى مجنون أخذوه حافياً جائعاً مُصاباً إلى المصير
المجهول...كانت هناك صبية صغيرة اسمها عائشة قد فقدت عقلها من هول الفجيعة. وحين
حاولت جدتها أن تحضنها إليها، وجدتها يابسة كلوح مسنود إلى الجدار...تحملق في نقطة
ثابتة...وتردد هامسة وهي ترتجف:
عامر...عامر...عامر.
وحين حملتها إلى فراشها، لا مست يدها بللاً في ثيابها...لقد تبوّلَت من الرعب...
من عيني وجه الجدة المتيبّس، سال خطان من الدمع حسرة على عائلة كانت سعيدة، مجتمعة
الشمل...سقطتْ عليها صخرة الأيام فهشمتها..انفرط العِقد...ضاعت بعض حباته تحت
التراب...وافتقد البعض...وحبّتان هناك يابستان...في قرية بعيدة...في كوخ منفرد..بلا
باب، انطلق منه للمجهول في تلك الليلة الباردة فتى مجنون يقال له: (عامر).
تنفس الصبح...وغمر ضوءه القرية ووقف ينتظر مصيره، كانت عيناه صوب جدته وأخته، دمعت
عيناه ثم ابتسم... وحين أزاحوا من تحت قدميه المصطبة تدلى في حبل المشنقة أمام
أهالي القرية الذين جيء بهم ليأخذوا العبرة...وقد تمنى كل واحد منهم لو كان
مـجنونـاً...
ـــــــــــــ
انتهت .
مواضيع مماثلة
» رواية المجنون للأديب الجزائري محمد جربوعة
» رواية غريب
» المسيخ الدجال {الجزء 1 } لشيخ محمد حسان [ الجهاد]
» رواية غريب
» المسيخ الدجال {الجزء 1 } لشيخ محمد حسان [ الجهاد]
مركـز التكـوين المهنـي و التمهين المـــــراهنـــة :: أدب وشعــــر :: أدب و شعــــر :: الروايات و القصص القصيرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى